التربية العقلية هي عملية إعداد دقيقة للفرد منذ مراحل عمره الأولى, كي يكون سليم التفكير, قادرا على اكتساب مختلف الأفكار والمعارف, وقادرا على تعلم المدلولات وفهم المعاني. بالإضافة إلى ذلك فان الطفل ينبغي أن يكون قادرا على الملاحظة والتمييز والاستكشاف, والتذكر والتصور, والتخيل والتوقع, والربط بين الأشياء والمواقف والأشخاص, ثم نتدرج بالطفل شيئا فشيئا كي نصل به إلى قوة التأمل ودقة التفكر والتبصر والقدرة على حل المشكلات ومعالجة المعلومات والاستقصاء والاستنباط وتوليد الأفكار, وحسن تقدير الأمور والقدرة على الحكم على الأشياء والمواقف, ثم الوصول إلى مرحلة التحليل والنقد والإبداع. إن كل هذه العمليات العقلية الضرورية لشخصية الإنسان الذي نريد له التميز, تحتاج إلى بيئة أسرية صحية وايجابية, نستطيع من خلالها أن نهيئ مناخا مناسبا لتأسيس عملية التفكير بالطريقة الصحيحة والارتقاء بتفكير الأطفال إلى مستوى يؤهلهم لبناء دور فاعل لهم لخدمة مجتمعهم وأمتهم.
إن هذا البناء الادراكي والفكري للشخصية الإنسانية هو من أساسيات البناء منذ السنوات الأولى للطفل. وعلى الأهل ابتداء أن ينتبهوا لسلوكيات أبنائهم والعمل على تحليلها من أجل توجيهها الوجهة الصحيحة. وان تم اكتشاف خلل ما يتعلق ببعض العمليات العقلية فان معالجته في مرحلة مبكرة ستوفر على الأسرة عناء مستقبليا كبيرا لو ترك الطفل دون انتباه أو معالجة. إن هذا الإنسان مكرم بالعقل كما قال علماؤنا الأجلاء, "ولقد كرمنا بني آدم..." وما دام هو مكرم بهذا العقل, فلا بد على المربين أن يحافظوا على هذه الكرامة, ويعملوا على تنميتها وتطويرها بما أوتوا من إمكانية ومقدرة. فانه بقدر ما تعمل على زيادة التربية العقلية لدى الطفل بقدر ما ترفع من شأنه في المستقبل. ورغم أن القرآن الكريم لم يذكر العقل نصا, إلا أنه ذكر أعمال العقل من التذكر والتدبر والتفكر والتعقل مرات كثيرة, "... لعلهم يتذكرون", "أفلا يتدبرون...", "...لقوم يتفكرون", "... أفلا يعقلون", وأعتقد أن في ذلك دلالة على عظمة أعمال العقل مقارنة مع مجرد مسمى العقل. فالاهتمام ينبغي أن ينصب دوما على شحذ مثل هذه العمليات العقلية الهامة, من أجل استثمارها بالطريقة الصحيحة التي تؤدي إلى الفاعلية والإنجاز والنجاح في حياة الإنسان.
لذلك كله فان على الأسرة تهيئة الجو الذي يساعد الأطفال على استخدام عقولهم كما ينبغي. وان أولى خطوات هذه التهيئة صنع المناخ النفسي في الأسرة من حب ووئام وعطف وحنان ورقة وشفقة وإخاء وتعاون. إن مثل هذا الجو هو ما سيدفع الطفل للتفكير السليم. ثم إن العلاقة الاجتماعية القوية التي تربط بين جميع أفراد الأسرة سيكون لها الأثر الكبير في تحفيز التفكير الايجابي المطلوب. وهذا ما سيدفع الأسرة إلى انتهاج منهج احترام الآخر واحترام رأيه وتقدير حريته. وبالتالي فكلما أعطيت الحرية للطفل في التفكير والتصرف والحركة - بمنهجية منضبطة طبعا- كلما ساعد ذلك على تنمية تفكيره وتوسيع مداركه. انه من الضروري كذلك أن يكثر أولياء الأمور والمربون من أسلوب الحوار مع الأبناء. إن الحوار المنضبط لا يمكن أن ينتج سوى الطفل الذي يعمل على استخدام عقله بدقة, ويستطيع أن يوازن بين الأمور ويربط بين الأشياء, فيخرج بالنتيجة المنطقية. ثم أخيرا ضرورة الاهتمام بالقراءة, وتعميق حب المطالعة في نفوس الأبناء والطلبة فان ذلك تأكيد على تعزيز العقل. فبقدر ما يطالع الطفل بقدر ما يعطي لنفسه الفرصة للتفكير. فالقراءة تشحن الفكر بكل ما هو مفيد للعقل.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي جبران
- المجموعة: مقالات تربوية
- الزيارات: 9395