يظن البعض أن تربية الطفل تبدأ في السادسة من عمره عند دخوله المدرسة, ويرى البعض أنها في السابعة من عمره, وبعضهم يظن أنها ليست قبل العاشرة من العمر. ربما يستغرب أؤلئك إذا قلت لهم أن عملية تربية الطفل تكتمل عند نهاية السنة الخامسة من عمره!!! إن جميع الدراسات التربوية العلمية وتلك الخاصة بالدراسات التربوية النفسية والتي لم يعارضها أحد من علماء التربية المعاصرين تشير إلى أن تربية الطفل تبدأ من اليوم الأول لعمر الطفل وتكتمل شخصيته في جوانبها الرئيسية الإيمانية والعقلية والوجدانية والاجتماعية والجسمية ما بين السنة الثانية والسنة الخامسة. أي أن بعض الأطفال تكتمل شخصياتهم في النمو على الأساسيات في السنة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة, وما بعد ذلك إن هو إلا بناء على ما تم تأسيسه في المرحلة الأولى من العمر. ويظن البعض كذلك أن عملية التربية تبدأ من بعد نفخ الروح فيه وهو جنين. لذلك فان البعض يسمع الجنين في بطن أمه شيئا من القرآن عله يؤثر فيه عند كبره أو على الأقل يكون عونا وتسهيلا له في حفظه. وفي ذلك خير, لكن الدراسات العلمية في هذا الموضوع لم تثبت القضية ولذلك فإنها تبقى في طور الافتراض الحسن.
تلك هي البداية المباشرة للتربية إذا. أي أنها تبدأ منذ اليوم الأول من عمره. قيل أن شخصا جاء لمالك بن نبي رحمه الله يستنصحه في ابن له كي يرشده في أساليب تربيته. فقال له كم عمره؟ قال: شهر. قال: فاتك القطار! أي أنه تأخر في تربيته شهر. إن الطفل يعتاد على بعض السلوكيات منذ الأيام الأولى. فان بكى وركضت الأم لإرضاعه, فانه يعلم أن بكاءه سيجلب له أمه كلما أرادها بجانبه. وبالمقابل فان الذي يكثر البكاء ولربما الصراخ أحيانا دون اكتراث أهله له فان ذلك سيترك أثرا نفسيا عميقا في شخصيته, وهذا أثر تربوي هام وربما يكون خطيرا على مستقبل الطفل. هذا في الجانب النفسي, أما في الجانب الاجتماعي على سبيل المثال فان حياة طفل يعيش مع أم اجتماعية اعتاد منذ صغره على رؤية أناس حول أمه تتحدث إليهم ويتحدثون إليها ويبتهجون معا تختلف تماما عن حياة اجتماعية أخرى لطفل قلما يجد من يتحدث مع أمه من قريبات أو صديقات أو جارات. ومثال آخر على ذلك فان الطفل الذي اعتاد أن يرى أمه وأباه يقفان على سجادة الصلاة كل يوم بخشوع وتمتمات سيعرف حقيقتها فيما بعد, يختلف اختلافا كبيرا عن ذلك الطفل الذي لم ير أحدا من أهله يستقبل قبلة. كل ذلك من القضايا النفسية والاجتماعية والإيمانية وباقي المتغيرات التربوية ينطبع في ذهن الطفل وفي عقله الباطن, وسيسترجعه في الوقت المناسب في مراحل حياته المختلفة, ثم سيتحول كل هذا إلى سلوكيات عملية يستشعر حقيقتها هذا الطفل كلما مارسها في حياته العملية.
ولكن هل هناك بداية أخرى للتربية؟ نعم. كل ما سبق أستطيع أن أعتبره بداية مباشرة للعملية التربوية, أما البداية غير المباشرة فهي باختيار الزوجة الصالحة التي ستحرص على تربية الأبناء بالطريقة الصحيحة. إن الشاب الذي يضع في باله البحث عن شريك للحياة يستطيع أن يهيئ المناخ التربوي المناسب لإخراج أسرة صالحة يكون قد بدأ بعملية التربية. وكذلك الشأن لها هي أيضا. فان كانت حريصة على تربية أبنائها فلن تقبل شريكا لحياتها غير ذلك الشخص الذي تتوسم فيه معالم التربية السليمة, وتلك هي البداية.