بعد أن تم عرض حقيقة الطفولة في القرآن, دعونا ننظر إليها ضمن التصور النبوي لها. وابتداءا فاني أستطيع أن أؤكد أن النظرة النبوية للأطفال كانت ايجابية وحيوية ومليئة بالحب والتودد والتفاؤل. كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال هينا لينا هادئا محفوفا بالرفق والرحمة وبعد الطموح. ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم موقفا فيه شيء من الشدة أو القسوة أو العنف. وهذا ما يؤكد أن المنهج النبوي في التعامل مع الأطفال كان منهجا رقيقا يراعي نفسياتهم ويلبي ما تحتاجه من رقة ورفق.
إن من أساسيات المنهج النبوي في التعامل مع الأطفال الرحمة, " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا". انه توجيه مباشر لكل من يتعامل مع الصغار أبناء كانوا أو طلبة, أن يرفقوا بهم فانه بقدر ضعف الأطفال بقدر ما يحتاجون من الرحمة والرفق والحنان. ثم إن الطفولة وفق الهدي النبوي بحاجة إلى إكرام وتكريم, "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم". انه أمر بالإكرام, فان الصغار لا يعون حقيقة الحصول عليه وبالتالي فعلى أولياء الأمور غرسه في شخصياتهم. وان من إكرام الطفل أن تعوده على الكرامة والعزة عند التعامل مع الآخرين أو عند التعامل مع الأشياء. إن الطفل الذي ينشأ على العزة والاعتزاز والهيبة والكبرياء لا يمكن أن يسمح لأحد أن يمس كيانه. والأمة التي تحافظ على كيانات أفرادها وترسخ العزة فيهم هيهات هيهات أن تذل وتخنع. حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد على الحفاظ على صدق الحديث مع الصغار صونا لشخصياتهم من التجريح إذ يقول: "من قال لصبي: تعال هاك, ثم لم يعطه فهي كذبة".
والمنهج النبوي واضح في اختيار أسلم الطرق وأرقها وأحسنها. يقول صلى الله عليه وسلم: "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة". وان من حسن الصحبة حسن الخطاب وحسن الخلق وحسن المعاملة وكل ما يساعد على تشكيل شخصية الصغير. ثم إن من الهدي النبوي المعروف أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدر الصغار ويحترم وجودهم ويشعرهم بانتباهه لهم, فقد كان كلما مر بالصبيان يلعبون في طرق المدينة ألقى عليهم السلام تقديرا منه لهم, وتعبيرا عن حبه إليهم.
لقد عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اصطحاب الحسن أو الحسين إلى المسجد ليشهد معه الصلاة. حتى أنه كان يحمله حملا, فإذا أراد الصلاة وضعه جانبا وصلى. وفي واحد من المواقف أطال النبي صلى الله عليه وسلم السجود فظن الصحابة أمرا ما, حتى أن راوي الحديث يقول: "إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت في سجودي, فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة, قال الناس: يا رسول الله, انك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها فظننا أنه حدث أمر أو أنه قد يوحى إليك, قال: "فكل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته". لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل الحسن عن ظهره الشريف ولو بمنتهى الود والرفق واللين, حتى يدعه يحقق غايته من ذلك الموقف, بل وآثر أن يؤخر الأمة التي تصلي خلفه احتراما وتقديرا لشأن الطفولة. وان في ذلك لفتة هامة تؤكد على ضرورة تعزيز الطفل بما يقوم به عن طريق إعطائهم حرية التصرف وتقدير ما يقومون به, فان مثل هذه المواقف تثبت وجود الصغار وتعمق ثقتهم بأنفسهم.
تلك هي حقيقة الطفولة إذن, أساسها الرحمة والحب, والعطف والرفق, والإكرام والعزة والكبرياء, والاحترام والتقدير, وبغير ذلك فإننا سنخرج أجيالا فاقدة لمعنى الطفولة الحقيقية, بعيدة عن تلبية حاجياتها الأساسية, والخاسر الأكبر عندئذ هي الأمة.