الهدر وارتفاع النفقات وضعف الإنتاجية في الحكومة: هل هي قدر الإدارة الحكومية؟
حقيقة الهدر وارتفاع النفقات
الهدر وارتفاع النفقات في الحكومة هو كل ما ينجم عنه زيادة النفقات الحكومية بحيث لا تؤدي إلى تحقيق الأهداف المرجوة بأعلى كفاءة وأقل تكلفة ممكنة, وتلك هي الإدارة الناجحة التي تحدث عنها كثير من علماء الإدارة المعروفون. إذا فان نتيجة الهدر هو تأدية العمل الحكومي بتكاليف أكثر مما يجب أن يكون. وهذا الهدر قد يكون مباشراً أو غير مباشر، وقد يكون هدرا ماديا (مثل هدر المال) أو معنويا (مثل هدر الوقت). ولهدر المال الحكومي مظاهر متعددة منها مثلاً:
- زيادة عدد الموظفين بدون منهجية مدروسة لحاجة المؤسسة أو الوزارة.
- هدر مالي تسببه البيروقراطية جراء إطالة مدى تنفيذ القرارات والأنظمة والإجراءات.
- تعدد السفرات في المهمات الرسمية غير المبررة لعدد كبير من الموظفين بطريقة غير منطقية.
- سوء استخدام الآلات والمعدات في الأجهزة الحكومية مما يؤدي إلى سرعة تلفها.
- زيادة نفقات الإيجارات والهاتف والماء والكهرباء بطريقة ملحوظة.
- استخدام أبنية أو مركبات رفاهية لا تتناسب والوضع الاقتصادي للبلد.
- استخدام الموظفين للسيارات ومختلف الممتلكات الحكومية للأغراض الشخصية.
- سوء التخزين في المستودعات الحكومية مما قد يعرض المواد المخزنة للتلف.
- مصروفات الإدارات الحكومية غير المبررة تحت بنود متعددة.
في دولة عربية محدودة الدخل يبلغ بند الإنفاق على القرطاسية ضمن ميزانيتها السنوية للعام الماضي 18.1 مليون دولار, فيما بلغ الإنفاق في بند استخدام السلع والخدمات كنفقات الإيجارات والهاتف والماء والكهرباء والمحروقات وصيانة الآلات والأثاث وعقود التنظيفات والسفر في المهمات الرسمية 242.4 مليون دولار ضمن ميزانية متواضعة لا تتجاوز السبعة مليارات دولار. مما قد يشير إلى حد كبير إلى غياب سياسة الحد من النفقات والتقليل من هدر الأموال في قضايا يمكن للإدارة الحكومية السيطرة عليها.
هدر الوقت..... ضعف في الإنتاجية أيضا
من أشكال الهدر المعنوي هدر الوقت, والذي يتصل تماما بالهدر المالي من جهة وبضعف الإنتاجية من جهة أخرى. بل إن ذلك يندرج تحت معاني الفساد الإداري. إن انشغال الكثير من موظفي الدولة في متابعة أمور خاصة تعنيهم كمتابعة الانترنت لفترات مبالغ فيها, أو قراءة الصحف اليومية، أو النقاشات الجانبية المطولة، أو الخروج المتكرر أثناء ساعات الدوام تحت أي مبرر على حساب أعمالهم الرسمية يؤثر حتما على أدائهم المهني. إن أداء المهمة الرسمية التي تحتاج ساعة من الزمن لإنجازها قد تحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير بسبب هدر الوقت المتكرر. وان ذلك لا يؤدي إلا إلى عجز أو على الأقل ضعف الإنتاجية العامة للمؤسسة. إذا فان النتيجة هنا هي ضياع وقت الموظف دون إنتاجية، وبالتالي هدر لوقت الدوام الرسمي, مما يعني بشكل غير مباشر هدر مالي كبير.
حلول مقترحة
ضمن خطط الدول المختلفة لتطوير كفاءة العمل الحكومي ومحاربة الفساد، فانه يمكن تفعيل آلية الحد من الهدر المالي ومن ضمنه إهدار الوقت والذي يحمل الدولة تكاليف كبيرة وغير محسوبة في ميزانيتها السنوية. ولإيقاف هذا الهدر يتعين تفعيل الرقابة بأنواعها التالية:
- تعميق معاني الانتماء والولاء للوطن والمؤسسة والتأكيد على الرقابة الذاتية للموظف.
- تفعيل الرقابة الداخلية للمؤسسة، من خلال إنشاء وحدات رقابية داخلية في كل مؤسسة حكومية، تكون مرتبطة مباشرة بإدارة المؤسسة.
- تفعيل دور ديوان الرقابة العامة، وهي الجهة المختصة لإجراء الرقابة اللازمة للكشف عن المخالفات المالية والإدارية والتحقيق فيها.
- السير المنتظم ضمن خطط للحد من الهدر المتكرر والتقليل من النفقات في شتى المجالات.
والمهم في الرقابة ليس مجرد الحديث عن وجودها وحسب، بل أن يكون وجودها فعلياً ومؤثراً وأن تكون الأنظمة والتعليمات في ذلك واضحة. وبما أن محاربة الفساد وتطوير كفاءة العمل الحكومي أحد محاور السياسة الداخلية لأي حكومة ناجحة، فالأمر يتطلب بذل المزيد من الجهود كي ترى نتائجها.
ما الاستراتيجية المطلوبة؟
إن مواجهة مثل هذا الخلل في هدر النفقات لا يكمن فقط في انتهاج سياسة الحد من النفقات ووقف الهدر في الطاقات، بل الحاجة ماسة إلى حكومة تنتهج منهجية التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى في جميع القضايا التي تهم المصلحة الوطنية للبلد. ففي مجال الطاقة مثلا يكون البحث الجاد والمستمر عن مصادر بديلة للطاقة كاستخراج الوقود من الصخر الزيتي إن توفر كفيلا للتخلص من كثير من نفقات فاتورة النفط الباهظة. وعلى سبيل المثال فإننا نقرأ أن كندا ستصبح في سنوات قريبة من أكبر منتجي النفط من الصخر الزيتي في العالم والذي بدأت شركة شل بالعمل على استخراجه, ويشار هنا إلى أن دولة عربية واحدة كالأردن يحتوي على أكثر من 40 مليار طن من الصخر الزيتي. أما في مجال المياه فعلى الحكومة أن تعمل على البحث عن مصادر جديدة للمياه خاصة مع تواصل التغيرات المناخية في العالم بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص. وفي قطاع الزراعة يجب التركيز على السياسات الزراعية التي تخدم سياسة الوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي في الإنتاج النباتي والحيواني. وحتى في قطاع التنمية الاجتماعية لا بد من البحث عن البدائل المتاحة التي تؤكد على عدم الاكتفاء بإعالة الأسر المعوزة عن طريق الدعم المادي والمخصصات الشهرية، بل اللجوء إلى طرق أخرى أكثر نفعا للاقتصاد الوطني، من خلال إقامة مشاريع صغيرة أو متوسطة الحجم لمجموعة من الأسر تديرها بنفسها تحت إشراف الجهات الحكومية المختصة.
تجربة ماليزيا في ترشيد الاستهلاك
في عام 1998م عانت دول منطقة جنوب شرق آسيا كماليزيا واندونيسيا وسنغافورة وبروناي وتايلاند وغيرها من أزمة مالية خانقة جراء التلاعب بالأسهم المالية من قبل مؤسسات عالمية كبرى, مما أدى إلى انهيار كبير في العملات المحلية لجميع دول المنطقة ولكن على تفاوت ملحوظ. لقد استمر انخفاض مسلسل العملات في كثير من الدول إلى فترات طويلة، إلا أنه استطاع أن يستقر نوعا ما في ماليزيا خلال سنة واحدة من خلال السير في استراتيجية دقيقة في ترشيد الاستهلاك والنفقات الحكومية. من ذلك تم إلغاء جميع الحفلات والمناسبات الحكومية التي تعقد في كبرى الفنادق، واستبدالها بحفلات متواضعة داخل المؤسسات نفسها وبمشاركة فاعلة من مسئوليها, حتى خرج رئيس الوزراء آنذاك محمد مهاتير على شاشات التلفاز يقوم بنفسه بعملية الطبخ في مناسبة لديوان رئاسة الوزراء. كما تم إلغاء جميع رحلات العمرة لموظفي الدولة من خلال إلغاء إجازاتهم للحيلولة دون زيادة الإنفاق خارج البلاد. أما على صعيد ترشيد الطاقة فقد تم إلغاء نصف إضاءة الشوارع ليلا من خلال إضاءة عمود للكهرباء وإلغاء الآخر في جميع مناطق البلد, وغيرها من الإجراءات حتى وصل الأمر إلى التعميم على جميع الدوائر الحكومية بمنع استخدام الورق المصور على جهة واحدة وضرورة التصوير على جهتي الورقة. إن سياسة ترشيدية مثل تلك كانت كفيلة لحفظ الاستقرار بل والعمل على تحسن الأوضاع تاليا.
من هنا نستطيع أن نؤكد أن الإدارة الحكومية وبإرادة قوية وتصميم دقيق وعزيمة متينة, وخطط استراتيجية واضحة يمكنها أن تحد من الهدر الكبير وارتفاع النفقات المستمر. وهذه السياسة وحدها هي التي ستصب في مصلحة البلد الاقتصادية مما سيرفع من شأنه ويدعم استقراره.